1- تحسين الصوت بالقراءة مع الجهر بها بخشوع وترقيق وتحزّن من غير تكلّف ولا مبالغة . فالتغنّي معناه الجهر بالقراءة ، كما في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أذن الله لشيء كأذَنه لنبي يتغنّى بالقرآن يجهر به ) ، وأذنه من الإذن ، وفي رواية ( كإذنه ) وفيه أمر وحث على تحسين الصوت بالتلاوة . والحديث نصّ في معنى التغنّي ، فلفظ ( يجهر به ) بيان له . ومعنى الجهر : رفع الصوت بالقراءة وتحسينه بها فطرة لا صنعة ، يترنّم به ويطرب ، وقد كانت العرب قبل نزول القرآن تتغنى بالحداء ، إذا ركبت الإبل لتقطع الطريق إذا جلست في أفنيتها وغير ذلك . فلما نزل القرآن الكريم أحبّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يشتغلوا بالقرآن ، ويرفعوا به أصواتهم ويحسّنوها ، وأن يجعلوا ذلك محل الغناء ، مع التزام صحّة التلاوة ، فعوّضوا عن طرب الغناء بطرب القرآن ، كما عوِّضوا عن كل محرّم بما هو خير لهم منه ، كجعل الاستخارة عوضاً عن الاستقسام بالأزلام ، والنكاح عوضاً عن السفاح ، وهكذا . 2- قد يراد بالتغنّي : ما يشبه الطرب وإعجاب الآخرين دون تدبّر ولا انتفاع ، ولا خشوع ، كما في حديث أشراط الساعة . 3- ويبعد أن يكون معنى التغنّي : الاستغناء بالقرآن عن الناس لاختلاف المعنى وعدم قبوله لغة . وهذا التغنّي بالقراءة ينبغي أن يكون سليقة وفطرة لا تعليماً وتدريباً على قوانين النغم . ذكر ابن القيم ، أن التطريب والتغنّي إن كان فطرة من غير تكلّف ولا تعليم ولا تمرين ، فهو جائز ، ولو أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين ، كما قال أبو موسى الأشعري للنبي صلى الله عليه وسلم ( لو علمت لحبّرته لك تحبيراً ) ، فلا بأس بذلك ، أما إن كان التغنّي صناعة وتمريناً وأوزاناً ، فقد كرهه السلف ، وعابوه وذموه ، ومعلوم أن السلف كانوا يقرؤون القرآن بالتحزين والتطريب ، ويحسّنون أصواتهم بشجى تارة ، وبشوق تارة ، وبطرب تارة ، وهذا أمر مركوز في الطباع .
توجيه معنى التغنّي بالقراءة : أ - أقول : إن حديث أشراط الساعة بطرقه ، وفتوى الإمام مالك فيهما والإشارة إلى منع القراءة بالألحان وقوانين النغم بما يخرج عن حدود التلاوة وصحة الأداء ويتعارض مع وقار القرآن ، وهذا لا خلاف في تحريمه . ب - أما حديث أنس وأبي ذر رضي الله عنهما وغيرهما ، فهي أحاديث تصف قراءة الخوارج ، وقد كانوا يتلون القرآن آناء الليل والنهار ، ولم يتجاوز حناجرهم ولا تراقيهم ، لأنهم كانوا على غير علم بالسنة المبينة ، فكانوا قد حرموا فهمه ، والأجر على تلاوته ، وفي الأحاديث أنهم كانوا يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، والأمر بقتلهم وأنهم شرار الخلق ، وأنك تحتقر صلاتك إلى صلاتهم وقراءتك إلى قراءتهم ، وهذا وصف للخوارج ومن كان على شاكلتهم .
قال ابن تيمية : صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه ، خرّجها مسلم في صحيحه ، وخرّج البخاري طائفة منها ، والخوارج كانوا يكفّرون المسلمين بالذنوب ، وهم أهل بدعة ، وتأويل ، وخروج عن الجماعة نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا . وهذا وصف خاص بالخوارج ومن على شاكلتهم ، قراء اليوم ليسوا منهم فيما نعلم . ج - وإن فتوى الإمام أحمد تتعلّق بتوليد الحروف والحركات الزائدة الناتجة عن تحوير الحروف وتمطيطها ، والخروج بها عن صحة التلاوة ، وهذه الفتوى مبالغة في الكراهية ، كما قال القاضي أبو يعلى ، فهي تتناول من أخلّ بالأداء ، فزاد حرفاً ، كزيادة الواو والألف في لفظ (( محمد )) فينطقها (( موحامد )) وهذا محرّم باتفاق . وقد كان الناس في عصر الإمام أحمد يتغنّون بالشعر ، ويمدون الحروف كيف شاءوا ، فكان " إسحاق الموصلي يعيب على إبراهيم بن المهدي " في ذلك ، لأنه يخرج الألفاظ عن أوضاعها العربية . فاستنكار هذا في التغنّي بالقرآن أوجب ، ولا يوجد مثل ذلك في عصرنا بحمد الله . د - قال ابن تيمية : الألحان التي كره العلماء قراءة القرآن بها هي التي تقتضي قصر الحرف الممدود ، ومد الحرف المقصور ، وتحريك الساكن ، وتسكين المتحرّك يفعلون ذلك لموافقة نغمات الأغاني المطرّبة ، فإن حصل مع ذلك تغيير نظام القرآن وجعل الحركات حروفاً فهو حرام .
الجمع بين أدلة المنع والجواز وليس بين أدلة المنع وأدلة الجواز تعارض إذ التحريم يكون فيما يخرج عن مقتضى التلاوة الصحيحة ، زيادة أو نقصاً ، أو إخلالاً بحكم لازم أو واجب ، أو مخالفة التواتر في الأداء . ويحرم أيضاً ما يقرأ بقواعد الموسيقى ، ولو بدون آلة لترقيص الصوت أو ترعيده ، أو تكسيره ، أو الترنّم والتصنّع لمراعاة المقامات الخاصة في ذهن القارئ أثناء التلاوة . والجواز يكون فيما يوافق صحة التلاوة مع تحسين الصوت بها . فإن أريد بالتلحين الزيادة أو النقص أو مخالفة التواتر في القراءة فهو لحن محرّم ، وإن أريد به التغنّي بالقراءة ، لتطريب السامع وتحزينه ، وترقيقه واستمالته مع التأمل والخشوع ، فهو المستحب ، ما لم يخل بمعنى ولا منبى الكلمة ، ولا يتبع قواعد النغم . قال السيوطي : قراءة القرآن بالألحان والأصوات الحسنة والترجيع إن لم تخرجه عن هيئته المعتبرة فهو سنّة حسنة وإن أخرجته فحرام فاحش . وقال في شرح الرسالة : ويتحصّل من كلام الأئمة أن تحسين الصوت بمراعاة قوانين النغم مع المحافظة على الأداء هو محلّ النزاع . فمن العلماء من رأى أنه خلاف ما عليه السلف ولأن القارئ ربما يغفل عن وجه الأداء ، فقال بعدم الجواز سداً للذريعة . وأما تحسين الصوت بالقرآن من غير مراعاة قوانين النغم فهو مطلوب بلا نزاع . قال ابن قدامة : واتفق العلماء على أنه يستحب قراءة القرآن بالتحزين والترتيل والتحسين. قلت : وهذا أخذ من حديث بريدة ( اقرءوا القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن ) وحديث ابن عباس ( إن أحسن الناس قراءة من إذا قرأ يتحزّن ) هما ضعيفان والأول ضعيف جداً .