blackswan عضو دهبي
عدد المساهمات : 177 النقاط : 6353 السٌّمعَة : 3 تاريخ التسجيل : 03/04/2011
| موضوع: الفيسبوك... وفعل التأسيس! الثلاثاء يونيو 28, 2011 9:45 am | |
| الفيسبوك... وفعل التأسيس!
قبل تناول الفيسبوك كشأن عام، ووسيط فاعل في التواصل الاجتماعيّ، أستميح القارئ عذراً لقول ما قد يبدو اعترافاً شخصيّاً. فبُعيد انتسابي إلى عالم الفيسبوك، قبل أيّام قليلة، وجدتني أتلقّى عرض صداقة من حسن، الذي هو صديقي منذ ثلث قرن تماماً. ولوهلة بدا لي الأمر مدهشاً بقدر ما لاح مثيراً لاستغراب يطلّ على الملهاة. إذ هل يعقل يا ترى، أن يعرض عليّ حسن الصداقة؟ إذن، ماذا كنّا نفعل من قبل، وماذا كان واحدنا للثاني طوال تلك السنوات الثلاث والثلاثين التي انقضت، وكنّا نظنّ خلالها أنّنا صديقان؟
لابدّ أنّ في الأمر عجباً ما، أو ربّما خدعة ما!
وبينما أنا أتأمّل في هذه الصداقة الجديدة وفي هذا التعارف المستجدّ، إذا بعرض صداقة آخر يلحّ على شاشتي، مُرسَل هذه المرّة من زوجتي. وأغرب من ذلك أنّها وجّهت إليَّ ذاك العرض وهي جالسة في غرفة من البيت تلاصق الغرفة التي أجلس فيها.
هكذا إذن! زوجتي، هي الأخرى، تسأل ما إذا كنت أقبلها صديقةً؟!
يقول المثلان السابقان إنّ الفيسبوك والعالم الافتراضيّ عموماً، ينطلقان من لا ذاكرة ولاماضٍ. فعلاقات العالم الفعليّ (هل أقول: السابق) لا تُحتَسَب فيه البتّة، بل ينبغي البدء دائماً من الصفر أو ما يقاربه. فنحن، فيه وعبره، نؤسّس صداقة، بالمعنى الذي يعنيه فعل التأسيس. ونحن نفعل ذلك آتين من فراغ ومن لا مكان، تماماً كما قد يلتقي رائدا فضاء، كلّ منهما من بلد، على سطح كوكب ثانٍ، وكلّ واحد فيهما يلوح أقرب إلى الطيف المموّه الشكل منه إلى هيئته المعروفة. أليس من الشروط الضمنيّة في كلّ عمل تأسيسيّ الانفصال عمّا كان؟
واستطراداً ينتابني، حيال الفيسبوك، أنّ وجود الصور الشخصيّة هو أكبر الخيانات التي يرتكبها هذا الوسيط الافتراضيّ بحقّ ذاته، حاملاً إلينا بعض اللبس والاختلاط اللذين ماكنّا لنواجههما لولا الصور تلك!
وأهمّ من ذلك ربّما أنّ الكيفيّات والمعاني التي تنطوي عليها هذه الصداقات الجديدة و"الافتراضيّة" تختلف عن الكيفيّات والمعاني التي نعهدها في الصداقات الفعليّة والأرضيّة المألوفة. فهنا، في الفيسبوك، حيث لا يوجد تماسّ جسديّ، لا نرى ولا نسمع ولا نشمّ وليس مطلوباً من واحدنا أن يعرف شيئاً عن طباع الآخر وأخلاقه. فحين يأتي عرض الصداقة يبدو الأمر أشبه بالزيجة المرتّبة سلفاً بين الأهل، حيث يتقدّم العريس بطلب يد من عروس لا يعرفها، وقد لا يعرف شيئاً عنها.
ولكنّنا، مع هذا، حيال وسيط معرفيّ. وأن نعرف، من دون أيّ تماسّ جسديّ ومن دون ماينجرّ عنه من توابع، فهذا ما يجعل الأمر رؤيويّاً إلى حدّ ما، شبيهاً بالمعرفة التي يوفّرها الإيمان والتعلّق بأرواح لا تتجسّد مادّيّاً، خصوصاً أنّ المسافة تضمحل فيه تماماً إذ تتساوى المسافات بين يديه تساوي أسنان المشط. ذاك أنّ جارك في البناية نفسها، بل زوجتك المقيمة في البيت نفسه، ليسا أقرب ولاأبعد من زميل فيسبوكيّ يقيم في اليابان!
وغنيّ عن القول إنّ الكتاب، على رغم تأديته بعض هذه الوظائف المجرّدة في إدراك المعرفة، يبقى ذا شكل وملمس، وقد تكون له رائحة ممّاتفتقر إليه آلتنا العجيبة.
فنحن، إذن، أمام الفيسبوك، نتعامل مع فارق يتعدّى الفوارق التي تفصل أيّ مهنة عن مهنة ثانية، حيث تتمتّع كلّ واحدة منها بقاموس مفردات خاصّ فيما تلازمها تصرّفات ومسالك لا تلازم المهنة الأخرى.
وهنا، على العكس، نجدنا أمام انشقاق مفهوميّ وسلوكيّ كامل يشبه ذاك الانشقاق الذي يفصل العالم الإيديولوجيّ، المحلّق في إيديولوجيّته، عن عالم الواقع الفعليّ. ومن هذا القبيل، مثلاً لاحصراً، روي أنّ فلاّحاً من مدينة حماة السوريّة قرّر الذهاب إلى دمشق للمشاركة في جنازة الرئيس حافظ الأسد بُعيد رحيله. ولكنْ ما إن وصل الفلاّح البسيط إلى مداخل العاصمة حتّى واجهته يافطة كبرى تقول: "حافظ الأسد خالد لا يموت". عندها، ظنّ الفلاح أنّ ما سمعه كان مجرّد إشاعة، فعاد أدراجه إلى بيته في حماة.
إذن الفارق بين الأيديولوجيّ (لا يموت...) والواقعيّ (مات...) يساوي الفارق بين الافتراضيّ والفعليّ. لكنّ المسألة لا تلبث أن ترتّب مسائلَ أبعد وأعقد. فالمعرفة عبر الفيسبوك، تكمن نقطة قوّتها في ديمقراطيّتها وشيوعها. فهي لا تشترط على المنخرط فيها شيئاً ولا تطالبه بشيء، تاركة له أن يملأ هذا الوعاء بما شاء أن يملأه به. وهذه وظيفة لاتكتم مصدرها الأميركيّ حيث "الثقافة الشعبيّة" على أنواعها تضرب عميقاً في تربة الولايات المتّحدة. يكفي التذكير بأنّ مهندس برامج الكمبيوتر الأميركيّ، اليهوديّ الديانة والملحد بالاختيار، مارك زوكربرغ، هو صاحب هذا الإنجاز العظيم، وبأنّ جامعة هارفارد كانت منصّة انطلاقه. ولئن بلغ عدد مستخدمي الفيسبوك منذ اختراعه في 2004 قرابة 700 مليون إنسان، ففي عداد هؤلاء نحو نصف الشعب الأميركيّ.
والحقّ أنّ الفيسبوك لا يطرح على نفسه مهمّة "العمق" ولا ينافس الكتب والنظريّات الكبرى. بيد أنّه، مع هذا، يمتلك طاقة تعادل طاقة الكتب والنظريّات على تغيير الواقع. وهكذا بات من الشائع وصفه بأنّه، لا سيّما في المجتمعات التي يحكمها الاستبداد، بديل الأحزاب والتنظيمات في زمن ما بعد الحزبيّات القديمة، كما أنّه التجسيد لفضاء عامّ تحول دونه الأنظمة التي تحرم شعوبها كلّ فضاء عام. والأخطر أنّه يملك القدرة، من موقعه الافتراضيّ غير المشروط وغير المسبوق بذاكرة وماضٍ، على غزو العالم الفعليّ وعلى تغييره. وهذا، بالضبط، ما رأينا عديد الأمثلة عليه في أكثر من بلد عربيّ مؤخّراً.
أمّا وجهة التغيير ومآله فليسا مهمّة الفيسبوك. ذاك أنّ المسألة هنا رهن الأفكار السياسيّة والقوى والأحزاب التي لابدّ منها في آخر المطاف. | |
|